ملوثات المصانع تغتال جمال طبيعة "بازيان"

2023/10/04 - 12:03 | 918 جار بینراوە    
 
سازان مصطفى
 
بوجه شاحب وجسد نحيف مُنهك، تواصل مريم (اسم مستعار) ما تبقى من حياتها، بعد أن تكالبت عليها الأوجاع، لم تكن صدمة ترك زوجها لها من دون معيل مع أطفالها؛ للزواج بأخرى هي أكبر مصائبها؛ في إصابتها بسرطان المعدة قضت على كل آمالها، بعدما تركت وحيدة تعيل أطفالها الثلاثة، وتحسب ما تبقى من أيام عمرها في صراعها مع السرطان.
 
مريم واحدة من عشرات الحالات المصابة بالسرطان في قضاء بازيان التابعة لمحافظة السليمانية؛ جراء تلوث الهواء والماء بالمخلفات البيئية والصناعية الناتجة عن المصانع العملاقة الواقعة في محيط المدينة. 
 
الغريب أن هذه المنطقة التي يسكنها نحو 68 ألف نسمة، شهدت تحولًا تدريجيًا لطبيعتها بداية من 2012؛ فبعدما كانت تتميز بالمناطق السياحية وتغطيها المساحات الزراعية الخضراء، غزتها -بشكل عشوائي- مئات المصانع والمعامل.
 
ووفق تقرير صادر عن منظمة "أزادبون"، فإن 32 في المئة من الصناعات العراقية تقع في محيط "بازيان". 
 
 
 
رئة المدينة المرهقة
 
ما زالت معاناة والده الراحل مع أمراض الصدر ماثلة في ذاكرة هيرش محمد: "أبي كان يعاني من حساسية في الصدر والربو، وظل حبيس منزله مريضًا، وكلما كنت أخرجه ليستنشق هواء نقيًا، تسوء حالته؛ نظرًا لتلوث هواء بازيان".
 
يوضح الدكتور صالح نجيب مجيد أن إتجاه الرياح يلعب دورًا في نقل ملوثات المصانع، وكلما اقتربت مصادر التلوث من المناطق السكنية، تزداد كثافة تعرض السكان لهذه الملوثات. 
 
ووفق صور الأقمار الصناعية، تقع مصانع الأسمنت والحديد على مقربة من المناطق السكنية؛ فيقع مصنع الأسمنت على بعد نحو 200 متر من الوحدات السكنية.
 
ويصدر عن صناعة الأسمنت غبار الكلنكر الذي ينتقل عبر الهواء، ويصيب الجهاز التنفسي لمستنشقيه. 
 
ورغم تعدد حالات الإصابة بأمراض الصدر الخطيرة في "بازيان"، لا توجد لدى دائرة البيئة في محافظة سليمانية أي إحصائيات عن معدلات الإصابة بالأمراض في قضاء بازيان.
 
ولا يمنع غياب التقديرات من أن تؤكد شاي اوات عبد القادر، رئيسة قسم التوعية والإعلام في دائرة البيئة في محافظة السليمانية، أن انبعاثات المصانع ومخلفاتها تؤثر سلبًا في صحة سكان المنطقة. 
 
 
تحول في طبيعة المنطقة
 
يتحسر كارزان عثمان على ما حل بقريته -كاني شيتان التابعة لـ"بازيان"؛ فبعدما كان يزورها الكثيرون من سكان المحافظات الأخرى؛ لما لها من طبيعة خلابة، ومساحات خضراء، تحولت المدينة إلى منطقة صناعية ذات هواء ملوث.
 
وعبر صور الأقمار الاصطناعية، لاحظنا التغير التدريجي لطبيعة المنطقة، وتحولها من منطقة زراعية إلى صناعية.
 
 
 
وتضم "بازيان" 167 مصنعًا، أكثرها مصانع أسمنت، تقع على مساحة لا تتجاوز 663 كيلومترًا.
 
ومع زيادة عدد المصانع، ومحدودية مساحة "بازيان"، تزداد كثافة العناصر الضارة في الهواء. 
 
يشرح الخبير البيئي صميم سلام أن العناصر الضارة في الهواء تتفاعل مع مياه المبردات التي تستخدم بكثافة في الصيف، ما ينتج انبعاثات غازية ضارة، ومياه حامضية.
 
كما تتساقط ذرات الغبار الناتج عن العمليات الصناعية على المساحات الزراعية، ما يؤثر في نمو المزروعات.
 
 
 
تنوع الأمراض 
 
تشير الإحصائيات التي حصلنا عليها من ثلاثة مراكز طبية في "بازيان" إلى تنامي عدد أمراض الصدر والحساسية والسرطان.
 
سجلت الثلاثة مراكز مجتمعة في 2022، 223 إصابة بالربو و15831  حالة إصابة بالتهاب في الصدر.
 
وفيما يخص الحساسية، وصلت أعداد المصابين من سكان القضاء العام الماضي إلى 2550. 
 
 
يرجع مدير مركز بازيان الصحي إسماعيل أيمن حسن، ازدياد حالات الإصابة بالأمراض الصدرية والحساسية، إلى تلويث المصانع للبيئة.
 
بالإضافة إلى ذلك، تتنامى أعداد مصابي السرطان في "بازيان"، لأسباب تتعلق -في الأساس- بانبعاثات المصانع. 
 
ووفق إحصائية مستشفى هيوا، وصل عدد مصابي السرطان بين سكان "بازيان" في الأعوام التسعة الأخيرة، إلى 175 مريضًا.
 
 
كما تشير الإحصائيات إلى أن نسبة الإصابة عند النساء أكثر من الرجال، إذ تظهر الإحصائية أن نسبة الإصابة بالسرطان بين النساء بلغت 60 في المئة، مقارنة بـ 40 في المئة من الرجال.  
 
 
ويشكك رئيس حزب الخضر الكردستاني المعني بقضايا البيئة، ملكو بازياني، في هذه الإحصائيات، مشيرًا إلى أن الحزب أجرى مسحًا عن عدد الحالات المصابة بالسرطان في قضاء بازيان، في الأعوام العشرة الأخيرة، وأسفر المسح عن أن عدد مصابي السرطان بلغ نحو 10 آلاف حالة.
 
هذا الرقم نفاه قائممقام بازيان إسماعيل أحمد، مشيرًا إلى أنه رغم تلوث هواء "بازيان"، لا تتجاوز أعداد مصابي السرطان بين أبناء القضاء 100 حالة. 
 
 
تلوث المياه الجوفية
 
كانت "بازيان" تمتاز بمخزون استراتيجي من المياه الجوفية، ومع الوقت تناقص هذا المخزون بفعل التفجيرات التي وقعت؛ من أجل الحصول على المواد الأولية لصناعة الأسمنت.
 
يقول الأستاذ في قسم الموارد الطبيعية في جامعة السليمانية نجيب صالح، إنه -بحانب تناقص المخزون الجوفي- تلوثت المياه الجوفية في المنطقة. 
 
تؤكد هذه الدراسة التي أجرتها ليلي صالح في 2013 عن التأثيرات البيئية لمصفى "بازيان" في تغيير بعض الخصائص الفيزيوكيميائية والبكتيرية للمياه والتربة.
 
وتوصل البحث إلى أن مصافي النفط في "بازيان" تصرف مخلفاتها غير المعالجة، وتتسبب في زيادة مستويات الرصاص والكادميوم في مياه الآبار عن المستويات المسموح بها. 
وأثبتت الدراسة أن النحاس -أحد العناصر السامة- يتجاوز نسبته في المياه الجوفية الحد المسموح به.
 
 
عرضنا هذه النسب على الدكتور واثق كريم، أخصائي الأمراض الباطنية، الذي يؤكد أن تعرض الإنسان لمستويات عالية من هذه المعادن -سواء من خلال مياه الشرب أو مصادر أخرى- يؤدي إلى ارتفاع احتمالية إصابته بأنواع معينة من السرطان. 
 
ويضيف أن هناك ربط بين التعرض لتركيزات عالية من الرصاص والإصابة بأمراض بسرطان الكلى والرئة، كما تؤدي تركيزات النحاس العالية إلى التليف الكبدي وتلف خلايا المخ. 
 
ويشدد كريم على ضرورة الالتزام بمستويات تركيز المعادن التي وضعتها منظمة الصحة العالمية؛ حتى لا يتسبب اختلاط هذه العناصر بالمياه في الإصابة بأمراض الجهاز الهضمي، وحتى لا يتسبب اختلاطها بالهواء في الإضرار بالجهاز التنفسي. 
 
وتخالف هذه التركيزات المادة 14 من قانون حماية وتحسين البيئة رقم 27 لسنة 2009، التي تنص على أن "تصريف أية مخلفات سائلة منزلية أو صناعية أو خدمية أو زراعية إلى الموارد المائية الداخلية السطحية والجوفية أو المجالات البحرية العراقية إلا بعد إجراء المعالجات اللازمة عليها بما يضمن مطابقتها للمواصفات المحددة في التشريعات البيئية الوطنية والاتفاقيات الدولية".
 
كما أنها تخالف اتفاقية باريس التي صدقتها العراق في العام 2021. وتهدف الاتفاقية إلى التخفيف من انبعاثات الغازات الدفيئة المؤدية إلى الاحتباس الحراري. 
 
وتعتبر الغازات المنبعثة من صناعات النفط والبتروكيماويات من أكثر مسببات الاحتباس الحراري، وتغير المناخ. 
 
مسؤولية قانونية
 
يلقي الخبير البيئي دكتور برهان عبدالله مسؤولية تدهور البيئة في "بازيان" على إهمال الجهات الحكومية المعنية، الرقابة على المصانع، وعدم وجودة خطة علمية واضحة لمعالجة آثار أنشطة المصانع في المدينة. 
 
ويقول عبدالله: "السلطات الحكومية البيئية تفتقر إلى كوادر بيئية مختصة وإلى الاجهزة والمعدات المختبرية اللازمة، لمتابعة نوع الملوثات المنبعثة من النشاطات الصناعية، وتقدير نسبتها".
 
فيما ردت على ذلك شاي آوات عبد القادر، رئيسة قسم التوعية والإعلام في دائرة البيئة في محافظة السليمانية، بأنهم يراقبون أنشطة المصانع بشكل دوري.
 
وتضيف: "سنعاقب أي مصنع ينتهك القوانين والمبادئ التوجيهية البيئية، ولن نتردد في المستقبل في معاقبة المصانع التي تضر المنطقة، وتوجد حاليًا مصانع لا تلتزم بالمعايير البيئية، وتم فرض غرامات عليها، كما رفعنا دعاوى قضائية ضدها".
 
وبينما تستمر مصانع "بازيان" في أنشطتها الملوثة للبيئة غير عابئة بشكاوى المواطنين، وقضايا دائرة البيئة المرفوعة ضدها، تتزايد أعداد ضحايا التلوث بين أبناء مدينة جذب جمال بيئتها -في الماضي- الزوار من كل حدب وصوب. 
 
 
* تم إنتاج هذا التقرير ضمن اطار مشروع أصواتنا المنفذ من قبل منظمة انترنيوز.
 
 



Dengnet.net - 2024
دروستکراوە لەلایەن کۆمپانیای (کۆدتێك)ەوە
ژمارەی سەردان 2,091,690     ژمارەی میوان 1169